قراءة في طبيعة الثورة المضادة في السودان
الترجمات الموجودة
تحياتي لجميع الرفيقات والرفاق المشاركين في هذه الندوة الرقمية للجبهة المتحدة ضد الفاشية والامبريالية، سأخصص مقدمتي هذه لمناقشة المواجهات العسكرية الدائرة بالسودان، من خلال طرح مجموعة من الملاحظات مستخلصة مما يجري فعلا على الأرض السودانية، منذ انطلاق الثورة الشعبية في السودان سنة 2018 والى غاية انفجار النزاع العسكري السوداني يوم 15 أبريل 2023.
منذ يوم السبت 15 أبريل تعيش السودان على وقع مواجهات عسكرية قوية، بين من جهة أولى الجيش النظامي بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان الحاكم الفعلي الحالي لدولة السودان، ومن جهة ثانية، ميليشيات مسلحة تسمى ب"قوات الدعم السريع" بقيادة الجنرال محمد حمدان دكلو"حميدتي" نائب البرهان في هرم السلطة. وقد اسفرت هذه المواجهات حسب آخر احصائيات لمنظمة الصحة العالمية يوم السبت 22 ابريل عن مقتل 434 شخص وعن إصابة 3551 بجروح خطيرة، كما اسفرت المواجهات عن اخراج 55 مستشفى عن الخدمة في العاصمة الخرطوم. بينما امتلأت الشوارع بجثت الفتلى، كما افتقدت الادوية الضرورية لعلاج المصابين بينما تم قتل حوالي تسعة أطباء. بينما سارعت الدول الكبرى الى إرسال طائراتها الى جيبوتي للعمل على اجلاء موظفي سفاراتها خارج السودان، خاصة بعد مقتل موظف بالسفارة الامريكية وموظف آخر يعمل بالمنظمة الدولية للهجرة.
ويعتبر الجيش النظامي السوداني ثالث أقوى جيش في افريقيا بعد كل من مصر والجزائر ويصنف في المرتبة العاشرة افريقيا و75 عالميا. ويصل تعداد الجيش النظامي السوداني حوالي مائة الف جندي يضاف اليهم مائة الف جندي احتياطي. وهو كأي جيش نظامي مجهز بكافة الأسلحة الخفيفة والثقيلة والطائرات والبواخر. أما ملشيات قوات الدعم السريع وهي مليشيا سبق أن انشأها عمر البشير سنة 2010 لتكون بديلا عن الجيش في محاربة القوي الانفصالية في دارفور، فيصل تعدادها الى حوالي مائة ألف مسلح، وقد شاركت في العديد من العمليات الحربية خارج السودان كمشاركتها مثلا الى جانب القوات العسكرية السعودية في مواجهة الحوتيين، وقد مكنتها خبرتها الميدانية من تأهيل هذه القوات الى خوض الحرب الحالية ضد الجيش النظامي، رغم امتلاكها لأسلحة خفيفة لا ترقى الى أسلحة الجيش الوطني.
منذ استقلال السودان سنة 1957، عاش الشعب السوداني باستمرار تحت نير الاستبداد العسكري المتواصل، وتعاقب القيادات العسكرية عبر عدة انقلابات متوالية، نجح بعضها وفشل البعض الآخر، وقد ظلت قوى الاستبداد العسكري تتسلح بالإسلام السياسي لإضفاء الشرعية على ممارساتها الاستبدادية. الاستثناء الوحيد هو انتفاضة الجماهير الشعبية السودانية سنة 2018 والتي دامت ثمانية أشهر ودفعت نوعا ما بنظام البشير إلى التنحي عن السلطة سنة 2019. وقد ساهمت القوى التقدمية، الاشتراكية والشيوعية بالارتقاء بالوعي الشعبي لمواجهة ممارسات الاستبداد العسكري المقرون بالفساد مما فجر انتفاضة سنة 2018، ودفع عمر البشير الى التنحي عن السلطة وبروز المجلس العسكري بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان الذي وعد بتسليم السلطة الى المدنيين، لكنه انقلب على هذا الاتفاق سنة 2021 بدعم من طرف القوى الرجعية ( كقوى الحرية والتغيير، التي هي عبارة عن ائتلاف ما يسمى زورا بالمنظمات المؤيدة للديمقراطية)، مكرسا استمرار الاستبداد والفساد العسكري.
وقد اقترن الاستبداد السياسي في السودان بتفاحش الفساد، المتمثل في احتكار قيادات الجيش لاستغلال مناجم الذهب وتصديره نحو الخارج بشكل علني أو عن طريق قنوات التهريب. علما أن البرهان وحميدتي كانا كلاهما من حلفاء الدكتاتور عمر البشير في فساده سابقا، قبل أن ينقلبوا عليه بهف قطع مسار الانتفاضة الشعبية ضد نظامه مع ممارسة القمع الوحشي ضد هذه الانتفاضة وتفريغها من محتواها الثوري الاجتماعي بمعية القوى الرجعية. وكان البشير نفسه هو من أطلق يد حليفه حميدتي في مجال تهريب وبيع الذهب عن طريق شركة خاصة تملكها عائلة هذا الأخير. وقد سبق لوكالة رويترز أن أكدت في تحقيق أجرته قبل عام حول وجود عمليات تهريب للذهب من أفريقيا تقدر بمليارات الدولارات سنويا. عن طريق الإمارات التي تعتبر بوابة لتهريب ثروات شعوب أفريقيا، وخصوصا من السودان وليبيا نحو أوروبا.
فقد استوردت الامارات العربية المتحدة بحسب تصريح لوزير الصناعة والتجارة السوداني سنة 2015 سبعين طنا من الذهب. كما أنتج السودان في النصف الأول من عام 2018 ما قدره 63 طنا من الذهب. وقد اشترى بنك السودان الحكومي منها ثمانية أطنان فقط، بأقل من سعر السوق، بينما تم تهريب ما تبقى. ويبلغ عدد شركات التعدين واستخراج الذهب 243 شركة، من بينها إحدى عشرة شركة امتياز. كما أن هناك الآلاف من الأفراد الباحثين عن الذهب بواسطة رخص للتنقيب تمنحها الدولة. كما يمتلك السودان ثالث احتياطي في العالم من مادة اليورانيوم الخام التي تدخل في صناعة الأسلحة النووية ويصل انتاجه الى مليون ونصف مليون طن حسب أرقام غير رسمية. ويوجد هذا المعدن في دارفور وجبال النوبة وكردفان والنيل الأزرق والبطانة وولاية البحر الأحمر.
ان التوجه السياسي الاستبدادي للجيش المدعوم بواسطة أيديولوجية الإسلام السياسي والانتماءات العرقية القبلية، الى جانب تفشي الامية يعمق الاغتراب الشعبوي بين السودانيين والاستيلاب نحو الخطاب الرأسمالي الليبرالي وبالتالي تسهيل نزوع السلطة العسكرية للخضوع لإملاءات وشروط المؤسسات الامبريالية من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهي السياسات التي افقرت أغلب الشعوب التي اعتمدتها، لأنها تؤدي الى خصخصة المرافق العمومية التي تقود نحو تدمير الخدمات العمومية، كما ترفع حجم المديونية الخارجية وبالتالي الى رفع مستوى الضرائب. كما أدت الى القضاء على الزراعة الجماعية التعاونية وعلى الأمن الغذائي، لفائدة الزراعة الرأسمالية الوحيدة الإنتاج ذات العائدات الكبيرة كما هو الشأن بالنسبة للصمغ العربي الذي بلغت المساحة المخصصة لزراعته خمسمائة ألف كيلو متر مربع أي ما يعادل ثلث مساحة السودان. كما ينتج السودان ما يقرب من 75 بالمئة من الإنتاج العالمي من الصمغ العربي على الرغم من انه لا يستغل سوى عشرة بالمئة من الغابات المنتجة لهذه المادة.
ان هذه النزعة الاستبدادية العسكرية المدعمة بالخطاب الديني والعصبية القبلية، الكامنة وسط الجيش السوداني، والمنتشرة أيضا وسط الميليشيات المسلحة لحميدتي، جعلتهم قوى ختوعة لقياداتها، وممارسات وحشية في قمع الجماهير الثائرة على الاستبداد والفساد، المطالبة بحكم ديموقراطي، منذ سنة 2018. فقد أوكل الجيش إلى قوات الدعم السريع الدور الرئيسي في محاولة القضاء العنيف على اعتصام القيادة العامة بعد الإطاحة بعمر البشير سنة 2018. علما أن هذه القوة المكونة من المرتزقة القبَليين أقل تعاطفا مع الجماهير الثورية مقارنة بالجنود وضباط الصف في القوات النظامية.
ان المساومة التي احرزتها القوى الشعبية الثورية سنة 2019 والتي قَبِل بها الجيش النظامي مضطرا للمحافظة على مصالحه الرئيسية، حافظت على التحالف العسكري بين الجنرالين البرهان وحميدتي قائماً في مواجهة ائتلاف قوى إعلان الحرية والتغيير. الذي استفاد من الضغط الذي مارسته القوى الشعبية الثورية الرافضة للمساومة. والذي انسلخ بعضها من هذا الائتلاف. وقد نجحت القوات المسلّحة من خلال تماطلها في تفويت السلطة للمدنيين، في الحدّ من قدرة الائتلاف على فرض الإصلاحات عليها، ومن ثمّ نجحت في شقّ صفوفه من خلال انشقاق كتلة التوافق الوطني أي الكتلة الديمقراطية لاحقاً، وبهذه الكيفية نفّذت انقلابها الثاني في خريف 2021، فأطاحت باتفاق المساومة بمجمله، ظنّاً منها أنها باتت قادرة على التحكّم بالبلاد. لكنها أخطأت الحساب في الواقع حيث تواصل ضغط الحركة الشعبية في وجهها، التي أعادت قوى الحرية والتغيير إلى المشاركة بها، كما تواتر ابتزاز الضغط الدولي السياسي والاقتصادي.
في مقابل هذا الإخفاق، بدأ حميدتي في التبرأ من فشل انقلاب القوات المسلحة التي يتزعّمها عبد الفتّاح البرهان من أجل المحافظة على مصالحه. انطلاقا من هنا اضطرّ الجيش النظامي إلى العودة إلى طاولة التفاوض حول تجديد المساومة بوساطة دولية، وانتهى بهم الأمر مرة أخرى إلى القبول باتفاق جديد مع "قوى الحرّية والتغيير"، الذي جاء أسوأ من اتفاق سنة 2019. وللمحافظة على وحدة القوات المسلّحة، وبالتالي لجم قوات الدعم السريع نهائياً قبل إبرام الاتفاق الجديد والشروع في تنفيذه.
فعلى هامش هذا التناقض، انفجرت المعارك بين الطرفين يوم السبت 15 أبريل، بعد رفض قوات الدعم السريع الانضمام بشكل كامل الى القوات المسلحة النظامية. هذا وتؤكد المعارك الشرسة الحالية باستحالة أي احتمال للتعايش بين الطرفين من جديد في إطار الدولة السودانية الواحدة والنظام السياسي الأوحد. فمن الصعب تصوّر توقفّ القتال بدون قضاء أحد الطرفين على الآخر، إلا في حالة استفراد كل طرف بمنطقة جغرافية مستقلة من السودان. وهذا يعني تقسيم السودان مرة ثانية.
إن الحرب الاهلية الجارية حاليا في السودان بين الجيش النظامي وميليشيات حميدتي، تبين أولا مدى التنافس بين قوتين عسكريتين للسيطرة على القيادة العسكرية الاستبدادية. كما تبين ثانيا، أن هذا التنافس هو من أجل الاستفراد بنهب خيرات السودان ومواردها الأولية وفي مقدمتها مناجم الذهب. وتبين ثالثا، طبيعة قوى الثورة المضادة لتوجهات الجماهير الشعبية الثورية، التي عبرت من خلال انتفاضتها سنة 2018 عن رفضها الاستمرار في الخضوع للاستبداد العسكري وما يرتبط به من نهب لخيرات البلاد.
على المستوى الجيو سياسي تبرز اهمية الموقع الجغرافي الاستراتيجي للسودان كحلقة ربط عبر نهر النيل بين كل من مصر من جهة الشمال واثيوبيا من جهة الجنوب واطلال السودان على العربية السعودية. وإذا ما أضفتا الموقع الاستراتيجي لليبيا، فان تكامل هذه المجموعة الرباعية في حالة توحدها سياسيا وايديولوجيا سيجعلها قوة إقليمية قد تمكن شعوبها من تحقيق قفزة نوعية جهوية وعالمية. لكن الامبرياليات التي تناوبت على نهب واستغلال شعوب هذه المنطقة، تعمل باستمرار على تدمير الأسس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تستهدف وحدتها، وتساند القوى العسكرية الاستبدادية التي تحكمها، كما تعمل على الضغط عليها بواسطة العقوبات أو تشجع الانقلابات عليها لفائدة قوى استبدادية جديدة تتحكم جيدا في مصيرها. وهذا ما فعلته الامبريالية الفرنسية في ليبيا سنة 2011 وهو ما تسعى اليه الامبريالية الامريكية في السودان اليوم.
رغم التناقض الذي يبدوا بين عبد الفتاح البرهان وحميدتي على مستوى اختلاف تحالفاتهما مع الامبرياليتين الامريكية والروسية، حيث لوحظ من جهة أن هناك ارتباط وثيق بين مليشيات حميدتي ومنظمة فاغنر الروسية وعلاقة ذلك بتهريب أطنان من الذهب تحو روسيا، وهو ما تريد الولايات المتحدة الامريكية الوقوف في وجهه، ومن جهة أخرى ميل عبد الفتاح البرهان الى التحالف مع الولايات المتحدة ومصر وموافقته على ابرام اتفاقية ابراهام مع إسرائيل كشرط لرفع العقوبات الامريكية عن السودان، الا أن هناك علاقات واتصالات تجمع أيضا حميدتي بالولايات المتحدة وايتيوبيا والمملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة وجميعها دول تدور في فلك الولايات المتحدة الامريكية. ان هذا المعطى يؤكد رجعية كافة هذه الأطراف ووقوفها موحدة في مواجهة المد الشعبي الثوري في السودان ضد الاستبداد والفساد العسكري ورفض كامل للسياسات الاقتصادية والاجتماعية الليبرالية الرأسمالية التي افقرت البلاد. فمن شأن نجاح الثورة الشعبية في السودان أن تنتقل الثورات الشعبية الى مختلف بلدان الجوار التي تعيش الاستبداد أيضا.
ان إرادة الامبرياليات في المحافظة على استمرار نفس النظام العسكري الاستبدادي في السودان تبدوا بارزة خاصة من خلال اسراعها بالتواصل مع الطرفين المتحاربين لايجاد حلول لتسوية النزاع القائم، أو في دعم انتصار طرف على الطرف الآخر. فالامبريالية تراهن باستمرار على أن نظاما عسكريا استبداديا هو الوحيد القادر على المحافظة على خنوع الجماهير السودانية لنمط الإنتاج الرأسمالي. وهو القادر على ضمان استمرار النهب المباشر لثروات السودان أو غير المباشر عبر الميكانيزمات النيوليبرالية المتوحشة.
نستخلص مما سبق ان ما يجري في السودان من اقتتال هو في الواقع ثورة مضادة وحرب طبقية على الجماهير الشعبية السودانية من أجل ضمان خنوعها للهيمنة الوحيدة للقوى الامبريالية. كما ان حالة السودان تشكل نموذج مثالي لما يحدث في كافة البلدان الافريقية والعربية التي حولت شعوبها الى معتقلين داخل تكناتها، تحكمها القوى المهيمنة التابعة لإرادة الإمبرياليات بأشكالها الاستعمارية القديمة أو بأساليبها الامبريالية الجديدة.
أخيرا تطرح علينا طبيعة هذه الحرب التي تمارسها الامبريالية بالوكالة ضدا على حرية الشعوب واستقلالها، سؤال كيفية تجذير الصراع الطبقي محليا وجهويا ودوليا، وهي مهمة صعبة يتطلب تجاوزها بناء جبهة عمالية وشعبية عالمية ضد الفاشية والامبريالية، فيا عمال العالم اتحدوا، ويا عمال العالم وشعوبه المضطهدة اتحدوا.